تدبر القرآن
الفهم الصحيح لقول الله : "وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ
الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا "
كتب : محمد الأنور ( أبو عبد الله المدني , تبيين الحق ) :
التاريخ : 28 من محرم 1437 هـ , 10 / 11 / 2015 م .
قال تعالى : " وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (34) . " ( النور ) .
لقد
أنزل الله القرآن بلسان عربي مبين , وجعله مبيناً ومفصلاً في نفسه وتبياناً
وتفصيلاً لكل أمور الدين , ومن قال غير ذلك فقد كفر بالكثير من الآيات التي تدل
على ذلك .
وبالرغم
من أن الآيات السابقة مبينة ومفصلة في نفسها , نجد أن الفرق الضالة قد تركت الفهم
الصحيح , ولهثت خلف أثرين مكذوبين قد حرفا معنى آية "وليستعفف" , فصار
معنى الآية عندهم : والذين يريدون الحرية من عبادكم وإمائكم فخذوا منهم مالاً نظير
حريتهم وآتوهم من مال لله الذي آتاكم , ولا تكرهوا إماءكم على الزنا بأجر إن أردن
العفة .
وهذا
كذب وتخريف .
ولقد
ضلت الفرق الضالة مرتين :
المرة
الأولى : عندما جاءت بروايات مكذوبة تزعم أن المراد بقول الله : " وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
" , هو العبد والأمة اللذان يريدان الحرية فعلى السيد أن يرضى بذلك ويأخذ
منهم مالاً مقابل حريتهم .
والسؤال
: كيف يأخذ منهم مالاً مقابل حريتهم , والله قد أمره بإعطائهم مالاً في الآية
نفسها , قال الله : " وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ "
؟
إن
فهم الفرق الضالة مخالف للآية نفسها .
والسؤال
: هل يحرم إعتاق من لم تعلم فيه خيراً عند الأثريين ؟
إن
الفهم الصحيح للآية هو : والذين يريدون النكاح مما ملكت أيمانكم فوافقوا عليهم , إن علمتم فيهم خيراً , وآتوهم من مال الله الذي آتاكم
.
فالكتاب
هنا عقد النكاح والحقوق التي به .
فلقد
أمر الله بالكتابة في الأموال في آية المداينة , والأمر بالكتابة في النكاح هو من
باب أولى , فضلاً عن أن النكاح يترتب عنه حقوق مالية لذا لا بد من الكتابة فيه ,
قال الله : " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [النساء : 25]
وآيات
سورة النور تتكلم عن النكاح وليس عن العتق كما يظن الأثريون .
المرة
الثانية : عندما زعمت الفرق الضالة أن سبب نزول الآية هو أن عبد الله بن أبي بن
سلول كان له جاريتين , وكان يكرههما على الزنا بأجر , فأنزل الله : " وَلَا
تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ " .
والسؤال
: هل يقبل عاقل هذا التخريف والهراء ؟
إن
هذه القصة الموضوعة المشحونة في كتب أسباب النزول والتفسير والآثار لا تليق بالقرآن
, بل وتجعل الشبهات تثار حول الإسلام .
يقول
الأثريون أن في زمن النبي كان رجلاً بالمدينة اسمه عبد الله بن أبي بن سلول وكان
منافقاً , بل كان رأس النفاق .
والسؤال
: هل كان الله تعالى يعلم أن عبد الله بن أبي بن سلول منافقاً أم لا ؟
إن
كنتم تؤمنون حقاً أن الله يعلم بنفاقه , فهل ينزل له قرآناً ينهاه فيه عن إكراه
إمائه على الزنا بأجر إذا أرادوا العفة ؟
هل
سيسمع هذا المنافق كلام الله تعالى ويطيع أمره وينتهي عما نهاه عنه ؟
وهل
غفر الله تعالى له هذا الذنب ورحمه ؟
ولا
يقل أحد أن المقصود بالغفران والرحمة الفتيات المكرهات , فهذا خطأ , إذ أن المكره
لا ذنب عليه حتى يغفر .
قال
تعالى : " وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا
تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " [البقرة : 232]
الشاهد
قوله تعالى : " ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ " , والسؤال : هل كان هذا المنافق يؤمن بالله واليوم
الآخر حتى ينزل الله تعالى فيه آية تنهاه عن إكراه الفتيات على البغاء ؟
قال
تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا " [النساء : 19]
هل
كان هذا المنافق من المؤمنين إذ أن الخطاب موجه للذين آمنوا ؟
إن
قصة إكراه عبد الله بن أبي سلول لإمائه على الزنا ونزول القرآن ينهاه عن ذلك , هي
قصة مكذوبة باطلة سنداً ومتناً .
والصواب
أن نقول أن الآيات بينات لا تحتاج إلى تفصيل , فالله تعالى قد بينها لنا , وعلينا
أن نفهمها باللسان العربي فلقد نزل القرآن باللسان العربي .
إن كلمة بغى تعني : طلب , ظلم , تعدى , اعتدى , تسلط , جار , كذب ,
زنا , انتظر .
وبغت المرأة أي زنت , فجرت وتكسبت بفجورها .
والبغاء
هو التكسب من الزنا , فليس الأمر قاصراً على حاجة الفتاة إلى الجماع بل حاجتها إلى
المال أيضاً .
ولا
بد من أخذ السياق في الحسبان فالله تعالى يأمر بالعفاف والإعفاف , كما يأمر بإعطاء
ملك اليمين من مال الله , كما ينهى عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن .
والمعنى
الذي أراه : لا تعضلوا فتياتكم إن أردن النكاح ولا تمنعوا عنهن المال فتضطروهن إلى
البغاء من أجل الجماع ومن أجل الكسب للطعام والشراب والدواء واللباس .
فالله
يأمر بإعفاف الفتيات وإعطائهن المال وعدم اضطرارهن إلى البغاء .
وبهذا
المعنى وبهذا الفهم لن يكون هناك أي تعارض بين النصوص .
فنقول
: أعط أختك مالاً إذا احتاجت ولا تضطرها إلى البغاء للتكسب بمنعك عنها مال الله .
ونقول
: زوج ابنتك إذا أرادت ولا تضطرها إلى البغاء بمنعك إياها من الزواج .
وهنا
سيمتنع مفهوم المخالفة , إذ أن سبب الاضطرار غير موجود وهو حاجتهم للمال أو الزواج
.
فأختك
إذا أعطيتها مالاً أو لم ترد مالاً فلن تكون مضطرة إلى البغاء لتكسب المال لأنها
غير مفتقرة إليه , ولا يصلح أن تعمل مفهوم المخالفة فتقول إذا لم ترد مالاً
فاضطرها إلى البغاء , إذ أن سبب الاضطرار غير موجود .
وكذلك
ابنتك إذا لم ترد الزواج فلن تكون مضطرة إلى البغاء إذ أنها غير محتاجة أو مضطرة
إلى الجماع , ولا يصلح أن تعمل مفهوم المخالفة فتقول إذا لم ترد النكاح فاضطرها
إلى البغاء , إذ أن سبب الاضطرار غير موجود .
وهذا
هو المعنى المتداول والمشهور بين الناس إلى الآن , فنقول : زوج بنتك إن أرادت
الزواج ولا تعضلها فتضطرها إلى البغاء .
ونقول
: اعط ولدك مالاً أو أنفق عليه إذا احتاج ولا تضطره لأن يمد يده أو يسرق لأنه يريد
مالاً وأنت تمنعه عنه .
فولدك
إذا أعطيته مالاً أو لم يرد مالاً فلن
يكون مضطراً للسرقة لأنه لا يفتقر إليه , ولا يصلح أن تعمل مفهوم المخالفة فتقول :
إذا لم يرد مالاً فاضطره إلى السرقة , إذ أن سبب الاضطرار غير موجود .
وكلمة
"فتياتكم" ذكرت قي القرآن مرتين , في سورة النور كما سبق , وفي سورة
النساء .
قال
الله : " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ
فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ
فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ
تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " [النساء : 25]
فالله
تعالى أمرنا بإعفاف ما ملكت أيماننا من فتياتنا المؤمنات بإذن أهلهن وإعطائهن
أجورهن وعدم تركهن دون نكاح أو مال ومن ثم يلجأن إلى البغاء .
ملخص الآراء مع تعليقي على
بعضها :
الرأي الأول : أن المعنى هو ولا تكرهوا
فتياتكم على الزنا بأجر إن أردن تحصناً , وأن الإكراه يكون في هذه الحالة فقط .
وأقول: لذا لا يصح مفهوم المخالفة هنا , لأنها لو كانت لا تريد
التحصن فلن تكون مكرهة على البغاء , ومن ثم فمن أثار شبهة ضد الإسلام وقال : (
إذاً الإسلام يبيح إكراه الفتيات على البغاء إن لم يردن تحصناً ) , أقول له : أنت
أحمق , كيف تكون مكرهة على البغاء وفي نفس الوقت مريدة له ؟ لا تجتمع التناقضات
إلا في ذهن الحمقى والمغفلين .
قال السعدي : (إن أردن تحصنا) لأنه لا يتصور إكراهها إلا بهذه الحال.
وأما إذا لم ترد تحصناً فإنها تكون بغيا، يجب على سيدها منعها من ذلك.
قال القرطبي : ( قوله تعالى : إن أردن تحصنا راجع إلى الفتيات ، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ
يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه . وإذا كانت الفتاة
لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها ؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنا . فهذا أمر في سادة
وفتيات حالهم هذه . وإلى هذا المعنى أشار ابن
العربي فقال : إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو
الذي يصور الإكراه ؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنا لم يتصور إكراه ، فحصلوه .
وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين ؛ فقال بعضهم : قوله : إن أردن تحصناراجع إلى الأيامى ، قال الزجاج ، والحسين
بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من
عبادكم إن أردن تحصنا . وقال بعضهم : هذا الشرط في قوله : ( إن أردن ) ملغى ، ونحو
ذلك مما يضعف والله الموفق ) . ( تفسير القرطبي
) .
تفسير الإمام جلال الدين المحلي : (ولا تكرهوا فتياتكم) إماءكم (على
البغاء) الزنا (إن أردن تحصنا) تعففا عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم
للشرط .
الرأي الثاني : أن المعنى هو ولا تكرهوا
فتياتكم على الزنا بأجر إن أردن تحصناً , وأن الشرط خرج مخرج الغالب , لأن الغالب
أن الإكراه لا يكون إلا عند إرادة التحصن , ومن ثم فلا مفهوم له .
وأقول : ليس الغالب هو الإكراه , بل الإكراه هو الشيء
الوحيد .
الرأي الثالث : أن المعنى هو ولا تكرهوا
فتياتكم على الزنا بأجر إن أردن تحصناً , وأن الشرط له مفهوم , ولقد كان ذلك توطئة
لتحريم البغاء تحريما باتا .
وأقول : لا أرى هذا الرأي .
قال ابن عاشور :معاني الآية إذ تأولوا
قوله ( إن أردن تحصنا ) بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا
انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب
أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب
نزول الآية كانت معها إرادة التحصن. والداعي إلى
ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن. ففي ذكر
القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به. وذكر (إن أردن
تحصنا) لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب
الإباء أن يكون عن إرادة التحصن. هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل
إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر
انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في
أن تحريمه هل كان بهذه الآية. وأنا أقول: إن
ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول.
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن. فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما باتا، فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريما مطلقا كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء. وقد يكون هذا الاحتمال معضودا بقوله تعالى بعده (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) كما يأتي. ( التحرير والتنوير لابن عاشور ) .
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن. فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما باتا، فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريما مطلقا كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء. وقد يكون هذا الاحتمال معضودا بقوله تعالى بعده (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) كما يأتي. ( التحرير والتنوير لابن عاشور ) .
الرأي الرابع : أن المعنى هو ولا تكرهوا
فتياتكم على الزنا بأجر إن أردن تحصناً , وأن الشرط له مفهوم , وهذا يعني جواز
بغاء الفتيات بأجر باختيارهن .
وأقول : إذا أعملنا مفهوم المخالفة كان هناك تناقضاً فكيف تكون مكرهة
ومريدة في نفس الوقت ؟
الرأي الخامس : أن المعنى هو ولا تكرهوا فتياتكم على العمل الشريف وهن
يردن الوقار في البيوت .
الرأي السادس : وهو قولي , وهو ولا تضطروا فتياتكم إلى البغاء بمنعهن
من النكاح وبعدم إعطائهن مال الله .
ولقد
تدبرت سياق الآية فخرجت بهذا الرأي , وهو الرأي الموافق للسياق .
الرأي السابع : النهي عن الإكراه لا عن البغاء :
وأقول
: وأنا لا أرى هذا الرأي .
وفي
تفسير الأصفهاني( شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الشافعي المتوفى سنة 749 هـ ):
وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا . وهذا
يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا.
الرأي الثامن : في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا. وقال بعضهم: هذا الشرط
وأقول
: وأنا لا أرى هذا الرأي .
قال
ابن العربي : إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور
الإكراه؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنى لم يتصور إكراه، فحصلوه. وذهب هذا النظر
عن كثير من المفسرين؛ فقال بعضهم قوله: "إن أردن تحصنا" راجع إلى
الأيامى، قال الزجاج والحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي وأنكحوا
الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا. وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله:
"إن أردن" ملغى، ونحو ذلك مما يضعف والله الموفق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب
العالمين